إن وجود الطوائف، بما هي نمط خاص من التعبير عن انتماءات هويّتية لجماعات معينة، ليس المشكل الأساسي أو المحدِد الرئيسي لمشاكلنا السياسية والاجتماعية في لبنان. أي أنه حتى ولو عرّفنا الطائفة كانتماء لمذهب ديني ما، وهي في هذه اللحظة التاريخية ليست كذلك كليّا، أو عرّفناها على أنها علاقة فردية مع جماعة متخيّلة، لن يكون ذلك التكوين الاجتماعي هو مصدر المشاكل في لبنان والاقليم. إن خيار الإنسان لأن ينتمي لهويّة معيّنة هو شأن علاقته المتخيّلة مع المجتمع الواقعي، وهذه العمليّة أمرٌ كوني (أو عالمي إن شِئنا) في الحقبة التاريخية الراهنة. نستطيع أن نجادل بأنّ وجود الطوائف هي مكمن المشاكل، انّما بذلك نكون قد خرجنا عن تكثيف تعاملنا مع قواعد واقعنا الخاص. ولكي نستدرك هذا النمط من التكوّن الاجتماعي في تاريخنا الراهن، سنستعرض في هذا المقال فهمًا للدولة الطائفية يشكل نقيضًا للفهم الذي يحدده لنا النظام الطائفي.
يدّعي الفهم المسيطر في لبنان أن الطوائف هي جوهر المجتمع اللبناني. فتقول لنا السردية التاريخية المهيمنة أن تعريف المجتمع اللبناني بحالته الطبيعية هو تجمّع أقليّات طائفية متناحرة، وأن هذه الطوائف هي “مكوّنات” اجتماعية عابرة للتاريخ بما يعني أنها لا تخضع للتغيرات الاجتماعية التاريخية العامة. فيكون بذلك وجود هذه “المكونات” الطائفية الطبيعية -الضروري والسابق لأي ظرف أو شرط اجتماعي – هو التبرير الأساسي لضرورة وجود الدولة الطائفية. هذا هو الفهم المسيطر للدولة اللبنانية والذي اعتمده المنظرون الأوائل للدولة الطائفية في لبنان.
يقوم خطأ هذا التفسير على وجهين. الخطأ الأول والرئيسي هو إظهار الطوائف على أنها جماعات خارجة عن التاريخ، أي أنها تبقى هي هي، ثابتة لا تتغيّر، مع تغيّر الظروف التاريخية للمجتمعات. لكن الواقع أن لا شيء من هذه الطوائف ثابت عبر التاريخ إلّا اسمها. حتى أن المرجعية الدينية لهذه الطوائف تخضع لظروف تاريخية وتتغيّر استجابة لتطورات سياسية معيّنة. والخطأ الثاني هو أن الطوائف “الجوهرية”، أو “المكوّنات”، ليست في واقع الحال السبب الحقيقي لضرورة وجود الدولة الطائفية. بل، حقيقة الواقع هي أن نشوء الدولة الطائفية هو المسبب الرئيسي الذي جعل الطوائف تبدو وكأنّها جماعات طبيعية أو “مكوّنات” جوهرية. أي أن استخدام الدولة كأداة لمأسسة الطوائف، تظهرُ الطوائف على أنها ضرورية وسابقة للدولة وتظهرُ وكأنّها السبب الطبيعي لوجود الدولة الطائفية. فنقول إن إظهار الطوائف على أنها كيانات طبيعية هو ظنٌ خاطئ وهو نتيجةٌ لوجود الدولة الطائفية.
إن الوظيفة الاجتماعية لكل دولة حديثة، وليست وظيفتها الوحيدة، هي مأسسة الروابط بين الأفراد. وهذه الوظيفة هي تعريفية للدولة الحديثة، أي أنها وظيفة كونية (أو عالمية إن شئنا)، لأن الفرد هو أصغر عنصر اقتصادي ضمن نمط الإنتاج الرأسمالي. فيختلف ذلك عن أنماط الإنتاج ما قبل التاريخ الحديث حيث أن العائلة، وخاصة ضمن أنماط الإنتاج الزراعية، كانت هي العنصر الاقتصادي الأصغر. وبما أن الفرد هو العنصر الأصغر ضمن نمط الإنتاج الرأسمالي، شكّل ذلك السبب الرئيسي الذي اُضطرت لأجله الدولة الحديثة على الاعتراف بأن الفرد أيضًا هو العنصر القانوني الأساسي في المجتمع. لذلك نقول أن الدولة الحديثة بتعريفها، هي أداة لمأسسة الروابط الاجتماعية التي يكون الفرد فيها العنصر الأصغر والأساسي. وما نعنيه هنا أن من منظار الدولة الحديثة تتكوّن المؤسسات الاقتصادية مثلًا من تعاقد حر بين أفراد، وأن النقابات هي تكتّل أفراد عاملين في قطاع اقتصادي واحد، وأن الطبقة الاجتماعية مثلًا هي اجتماع أفراد ضمن مصلحة اقتصادية محددة. فإن هذه العلاقات الفردية المبنية على ارتباط المصالح هي ما اصطُلح عليه باسم “المجتمع المدني”، أي حيّز العلاقات الاجتماعية خارج نطاق العائلة والذي يحكمه نظام أخلاقي مختلف عن العائلة. تجدر الإشارة بأننا لسنا بصدد حصر الدولة بهذه الوظيفة، فإحدى الوظائف الأساسية للدولة أيضًا هي إدارة تناقض المصالح بين الطبقات الاجتماعية والقطاعات الاقتصادية وحتى بين مصالح الداخل ككل والخارج. كما أننا لا نقول أن الدولة تمأسس العلاقات الفردية حصرًا، لكننا نقول أنها وظيفة محدِدة لتعريف الدولة الحديثة.
لا تخرج الدولة الطائفية في لبنان عن هذا التعريف الوظيفي، أي عن ضرورة مأسسة علاقات الأفراد في المجتمع، مما يحتّم عليها الاعتراف بالفرد ككيان أساسي. فكيف للدولة الطائفية أن توفّق بين الاعتراف بالفرد كيانًا أساسيًا واعتبار الطوائف كيانات طبيعية؟ تلجأ الدولة الطائفية للطوائف لتكون الوسيط الذي من خلاله تعترف الدولة بالأفراد. أي أن عند الدولة الطائفية لا وجود لفرد مواطن إن لم يكن جزء من جماعة طائفية. تقوم الدولة أولًا بمأسسة الطائفة، فتصبح الطائفة المؤسسة الاجتماعية الأساس داخل الدولة، وتعطي الدولة الأفراد عند الولادة اسم طائفة موروث عن اسم طائفة الأب. كما تمأسس الدولة سلطة الطوائف الشرعية وتلزّمها إدارة شؤون الفرد الشخصيّة، أي كل ما يتعلّق بالحيّز الخاص للفرد ضمن العائلة.
يبدو هنا وكأن الدولة الطائفية تفصل المجتمع إلى قسمين، حيز خاص تتولّى إدارته مؤسسات الطوائف، وحيّز عام مدني تتولى إدارته الدولة. هذا ما ظنّه منظّرو الدولة الطائفية الأوائل، وهو ظنّ خاطئ. بما أن الدولة الطائفية تعترف بجماعات طبيعية اسمها الطوائف، وهي حصرًا مبرر وجود تلك الدولة، تحصر الدولة التمثيل السياسي للمجتمع من ضمن الجماعات الطائفية. يكون بهذا المعنى التمثيل السياسي داخل الدولة هو حصرًا من أجل تمثيل الطوائف، ولا معنى وظيفي للتمثيل السياسي داخل الدولة الطائفية إن لم يكن لتمثّل الطائفة داخل الدولة. فنرى هنا أن الطائفة انتقلت من كونها الوسيط الأساسي بين الفرد والدولة في الحيز الخاص إلى كونها أيضًا الوسيط الحصري لتمثّل المجتمع داخل الدولة.
يقول التفسير المسيطر أن ضرورة وجود الدولة الطائفية هو من أجل ضمان “العيش المشترك” بين الطوائف، وذلك لأنها في حالتها الطبيعية المفترضة هي في علاقة متناحرة تميل بشكل طبيعي إلى الاقتتال. ما يعنيه هذا الافتراض أن الدولة الطائفية تقوم على قانون أوّلي وهو قانون تحريم إلغاء طائفة لأخرى. هذا القانون التحريمي الأوّلي هو القانون الذي تتشكّل حوله الطوائف في لبنان وهو الذي يترجم اسميًا إلى “العيش المشترك”. وفعالية هذا القانون التحريمي في الواقع هو ما يُسمّى بالقوّة “الميثاقية”. أي أن تبعات هذا القانون التحريمي الأوّلي هو أن يكون للطائفة، بما هي طائفة، قدرة تعطيل القانون، أي قدرة إرساء حالة طوارئ في البلد حيث يتعطّل فيها العمل بالقانون. مما يعني أن الدولة الطائفية بحصريّة اعترافها بالطوائف وقانونها التحريمي الأوّلي تعطي الطائفة القدرة على أن تكون الاستثناء داخل الدولة، الاستثناء الذي يعلو فوق القانون.
الّا أنّ الدولة الطائفية لا تساوي بين الطوائف. فبما أن الطائفة لها حصرية الاستثناء، ليس للدولة شيء فريد أعلى من الطائفة يساوي بين الطوائف. ينتج عن هذا الحال رغبة في المنافسة بين الطوائف لتكون إحداها هي الطائفة المهيمنة، أو الطائفة (الفريدة) الاستثنائية الأعلى التي تتساوى مقابلها كل الطوائف الأخرى. والحال أن الطوائف ليست بمتساوية ضمن الدولة الطائفية بل هي في ترتيب هرمي، تحتل فيه المرتبة الأعلى الطوائف الرئيسية الثلاث (الموارنة، والشيعة، والسنة) و تكون الطوائف الأخرى إما ثانوية أو من درجة ثالثة وتسمّى أقليّات. فتمأسس الدولة الطائفية المنافسة بين الطوائف، ضمن حدود هذا الترتيب الهرمي، لتحقق كل طائفة اكتمال رغبتها وتكون هي الطائفة الاستثنائية الأعلى. وتحاول طائفة معيّنة ضمن هذه المنافسة أن تسيطر على هذا الموقع الاستثنائي من خلال نسج تحالفات مع طوائف أخرى تكون هي فيه الفريق المهيمن.
في إطار المنافسة على تحقيق الرغبة لاستكمال موقع الاستثناء الأعلى، ولأن ليس للطائفة الواحدة أي ميزة فعلية تميّزها عن طائفة أخرى لجهة الفرادة، تحاول الطائفة استحواذ او استلاب الوظائف الاستثنائية للدولة. فمثلًا، حاولت الطائفة المارونية في السابق الادعاء بأنها هي مصدر الفرادة للبنان داخل منطقة عربية إسلامية، لتُظهر أنها هي المبرر الجوهري لضرورة وجود الدولة اللبنانية. وطبعًا، تزامن ذلك مع شرخ طبقي حاد بين الطوائف حيث حاولت فيه برجوازية الطائفة المارونية الهيمنة على قطاعات الاقتصاد اللبناني. إن احتكار الاستثناء في تلك الحقبة هو ما سُمي “بالمارونية السياسية”. كما الآن، تستحوذ الطائفة الشيعية على استثناء آخر، وهو استثناء حمل السلاح والدفاع الخارجي عن الدولة. فهذه الوظيفة التي هي في الأصل وظيفة استثنائية للدولة، تستلبها اليوم الطائفة الشيعية في منافستها مع الطوائف الأخرى. واحتكار هذا الاستثناء ما يستتبعه من هيمنة على تحالفات طائفية، هو ما يسمى اليوم “بالشيعية السياسية”. فبالمجمل تحاول كل طائفة احتكار وظائف خاصة بالدولة أو استثناء معيّن، هو للدولة أساسًا، كي تحقق رغبتها التي خلقها لها القانون التحريمي الأوّل، وهي أن تكون الطائفة الاستثنائية الأعلى لتتساوى الطوائف الأخرى مقابلها. وعند كل لحظة تقترب هذه الرغبة من التحقق، تفيض المنافسة عن حيّز مؤسسات الدولة، ويعلو احتمال انتقال المنافسة إلى الاقتتال في الشارع.
انّ رغبة الطوائف، التي خلقها ذاك القانون الأولي ومأسس منافستها النظام الطائفي، تدمّر الدولة. فإن المنافسة تُتَرجم فعليًا إلى تعطيل وظيفة الدولة بتأمين حاجات المجتمع ككل وليس في جزئيته. كما أن المنافسة لا تستطيع أن تكون فقط منافسة داخل حيّز الدولة، فالدولة هي مركز استخراج رأس المال، مما يعنى أن المنافسة تفيض حتمًا إلى الحيز الاقتصادي حيث تتنافس برجوازيات الطوائف على احتكار مصادر الإنتاج الأساسية. كما أن من أجل أن تروّض البرجوازيات الطائفية العمال وتزيد من سلطتها، تسيطر الطوائف على العلاقات المصلحية المهنية والطبقية التي تشكل حيّز “المجتمع المدني”. وبهذا، تكون المنافسة الدائمة بين الطوائف التي خلقتها الدولة الطائفية هي القوّة المدمّرة للدولة والمفككة للمجتمع من حيث لا يعود بإمكانه التكتل على أساس مصالحه العامة. انطلاقاً من هذه المقاربة، تأتي قادرين لاستنهاض مجتمع مدني سليم، قادر أن يتكتّل حول مصالحه الاقتصادية والاجتماعية والمدنية، خارج أغلال القواعد المستحكمة للدولة الطائفية ومؤسساتها.
