مرّ اكثر من سنة على ولاية المجلس النيابي الحالي, والذي حصلت انتخاباته في مفصل تاريخي من عمر هذا الكيان. كان الجديد فيها على المشهد السياسي وصول ثلاثة عشر نائبا عرفوا بالتغييريين, كحصيلة برلمانية لموجة الاحتجاج التي انطلقت في 17 تشرين 2019. لم يكن النواب الفائزون هم النتيجة الوحيدة لهذه الانتخابات لجهة المشهد السياسي المعارض, فقد كان بموازاتهم العديد من المرشحين وابرزها لوائح قادرين التي تشاركت مع التغييريين لوائح وتنافست في أخرى, ولكنها لم تنجح في ايصال أي من مرشيحها الى الندوة البرلمانية.
ورغم الآمال الكبرى التي وضعت على الانتخابات لتغيير معادلة التمثيل والسلطة في لبنان, إلا أن أحزاب النظام استطاعت أن تضع حدا لهذه الموجة التي استمرت ثلاث سنوات من خلال مفصل الانتخابات. وضِمنت لنفسها استمرارية وشرعية شعبية وقدرة على الامساك باللعبة السياسية الى حد كبير. فأمام غضب الناس الذي فجره حراك تشرين والذي بدا كثورة واثقة من نفسها غير مستعدة للتسويات. شكلت ساحات الاعتصامات فيها مواقع لتنفيس الغضب والغبن والظلم, وتنافست ضمنها أطروحات لمجموعات وأحزاب وشخصيات حديثة النشأة نسبيا حول شكل البديل السياسي للنظام وسبل الخروج من الأزمة. فتجرأ المنتفضون على المحرمات السياسية وهتكوا رموز أحزاب النظام بالسباب والتهكم والهتافات.
رصد أركان النظام طرائق الحراك الجديد, هم المربكون في البداية نتيجة عدم معرفة حجمها والمشاركين فيها وهم بغالبيتهم من ناخبيهم الذين بايعوهم الولاء منذ سنة ونصف. أين كان هذا الغضب الكبير وكيف تدفقت الناس بالآلاف هكذا؟ فنقاط قطع الطرق لا تتوقف والأحداث تتأرجح بين العفويّة و الاصطناع. لكن ردات فعل أهل النظام كانت واحدة وهي تمسّكهم باستمرار النظام واستمرارهم. فصار همّهم الأول مواجهة التهديد الأساسي، أي انتقال حالة الاعتراض إلى مواجهة سياسية تطيح بهم فتقلب ميزان القوى وتقوض مواقع أهل السلطة. وانقسم التعامل مع أطراف الاعتراض المختلفة، بين الاستيعاب المريح من قبل فريق السلطة الطامح للاستفادة من الهيجان الشعبي وبلع شعار التغيير وتعميم مقولة مواجهة المنظومة بدل النظام وهم تمثلوا هنا بالأحزاب السيادية وبقايا 14 آذار. أو عبر تهم التخوين والتآمر والقمع الجسدي من قبل فريق ثنائي حركة أمل وحزب الله تحديدا. جسدت حكومة حسان دياب عدم رغبة السلطة بالمساومة مع الشارع بل بتحديه ومواجهته وببدأ مسار التطبيع مع الأزمة ماليا. وكان هذا التحدي يقابل بمزيد من الاحتجاج الذي بدأ يخفت مع جائحة كورونا. فضُعف الحراك الجديد وانقسام المحتجين بالتعامل مع الحكومة كان قد أصبح مرئيا, حيث أنه لم يتم الانتقال لمرحلة مواجهة مؤثرة تبتكر قواعد اشتباك فاعلة او تتطور من الاحتجاج الى صياغة خطاب موحد وهدف سياسي واضح, يضبط سلوك الأفراد ويقمع مصالحهم الشخصية ومزاجيتهم, ويضع هيكلا يخرج الانتفاضة من عفويتها ويحول الأفراد المشاركين من مفترشي طرق وخيم الى جبهة سياسية فاعلة تعمل على تفكيك علاقات السلطة داخل المجتمع وتواجه سردية النظام بأخرى بين الناس.
المفصل الثاني حدث مع تفجير 4 آب و كان إشارة الى لا مبالاتهم بأمن المجتمع وسلامة ناسه. فكانت فرصة تاريخية ليس للاحتجاج فقط بل لسحب بساط الشرعية الدولية والداخلية عن الأحزاب وبين مناصريها, لو ان بديلا معارضا جديا موحدا شعبيا كان موجودا. لكن حصل العكس تماما فكشف الحدث تخبط قوى التغيير وكانت النتيجة تعويما للأحزاب عبر زيارة ماكرون دوليا وشعبيا يأسا لا حدود له من أفق المواجهة. ولأن حدثا كهذا مر مرور الكرام, أيقنت السلطة أنها تستطيع التنصل من كل مسؤولية ملقية عليها أمنيا واقتصاديا واجتماعيا, وأصبح واضح للداخل والخارج أن أركان النظام يعتبرون السلطة حقا خاصا لا يقبل الانتزاع او الانتقال وهو معركة وجود يُدفع الغالي والرخيص فيها. وعليه تعامل المحتجون والدول الخارجية من هذا المنطلق, وتحولت الانتخابات النيابية للمفصل الأخير المتبقي الذي يمكن المواجهة عبره.
كانت الموافقة على الذهاب للانتخابات دليلا واضحا على استعداد اركان النظام الطائفي لخوض المعركة وتجديد شرعيتهم داخليا وخارجيا واستيعاب المعارضة, أي فعليا امتصاص الغضب الشعبي الناتج عن هذه الازمة العميقة واسدال الستار عن هذا الكابوس المرعب للمرة الاخيرة. وهي مثلت كذلك الاختبار الثالث للقوى المعارضة. الثمن بالنسبة للسلطة كان التضحية بأضعف حلقات النظام أمثال ايلي الفرزلي في البقاع الغربي وطلال ارسلان في عاليه مع صهره رأس حربة جمعية المصارف في حاصبيا وأسعد حردان في دائرة الجنوب الثانية كذلك ووئام وهاب في الشوف وكرامي في طرابلس على الرغم من ربحه للطعن فيما بعد. بالمقابل ومن جهة أحزاب ومجموعات المعارضة كان المشهد يتسم بالفوضى وقصر النظر والمراهقة إن كنا نريد أن نقيّم المشهد بنية حسنة. وبالشخصنة والإختراق من قبل عدد لا بأس به من الذين سيصبحون فيما بعد نوابا تغييريين, وبالتآمر الممنهج بينهم وبين أطراف النظام من سياسيين وإعلاميين ومصرفيين, ربما بغير المباشر ولكن بوعي للمصلحة المشتركة التي يؤديها هؤلاء النواب للنظام مقابل السماح لهم بالوصول للمجلس. تم القبول بالدخول تحت سقف السلطة لناحية اختيارها لمكان وزمان وشروط المنازلة. فتم الترويج لفكرة الانتخابات كأنها “الحدث التاريخي” في مسار الحياة السياسية اللبنانية. وهي حكما وهمٌ محض وشعارات صنيعة النظام لتجديد نفسه بأكثر الطرق ليبرالية. فهي أداة تغيير حين تخضع جميع القوى لارادة المجتمع وسيادة الدولة. اما حين تنشأ سلطات متوازية لسلطات الدولة زبائنية كانت أو عسكرية. فإن الانتخابات تصبح حدثا فلكلوريا شكليا, لكنه لا يغير من ميزان القوى, لأن التحدي بأساسه مجتمعي لا انتخابي قانوني تمثيلي. وتبين أن حراك 17 تشرين مناسبة استثمار شخصي للعديد من الأفراد والوجوه، ولم يكن جزءا من استراتيجية “ثورة” أو مسعى تغييري جدي. أي كان مناسبة للعديد لدخول حلبة السياسة ونادي السلطة، لكن بشروط وقواعد قوى السلطة نفسها.
تمثل وصول عدد وازن من النواب الجدد عن تطلع شعبي غير مسبوق بضرورة إعطاء الشأن الداخلي أولوية على الاعتبارات الإقليمية والطائفية والمناطقية، مروجا لنفسه على أنه التغيير الذي يهدف لكسر قواعد اللعبة السياسية بتغيير وجوه أهل السلطة، وتفكيك شبكة المصالح الممسكة بمواقع القوة والمتحكمة بتوزيع موارد الدولة, وإيجاد قوة وازنة تخطف أي أكثرية في المجلس, وتستطيع أن تحاسب وتراقب وتشرع. هذا المكون لم ينطلق من جبهة تغيير موحدة، أو برنامج عمل متقن، فالتغيير كان شعاراً تعبوياً، محملاً بلغة احتجاج، ويعبر عن تطلعات وآمال عالية السقف وغير واقعية، بخاصة مطلب “كلن يعني كلن”. وهذا التنافر كان واضحا بين النواب الفائزين وبقوة, بجانب شخصانية مفرطة.
تم تعويم هذا المكون عبر المكنة الإعلامية نفسها التي تولت منذ 17 تشرين رسم خطاب الناس المنتفضين. فأسبغت السردية التي تريدها وأعطت المنبر لمن رأت فيه شخصا غير مستعد لتجاوز الحدود المرسومة لناحية تهديد أحد أطراف النظام. فكانت مقولات “الصوت المجدي” الذي ليس من المهم من يأخذه ولكن المهم أن يذهب لمن لديه حظوظ خرق أعلى وهو بالطبع لا يشكل خطر وجوديا على النظام. فرُسمت صورة أن لوائح التغيير هي الأقرب إلى تطلعات الناس وآمالهم، وأكثرها تعبيرا عن آلامهم وأوجاعهم، وأقربها التصاقاً بمعاناتهم ومآسيهم. وكانت نسبة الأصوات العالية علامة تغيّر في نظرة الناخب اللبناني إلى مواصفات من يمثله وانتقام مما فُعل به خلال هذه السنوات الثلاث, وعلى دور الإعلام والمنصات الانتخابية الحديثة النشأة في خلق الحالة التغييرية وكبح غيرها من الحركات المعارضة, هذه المنصات التي حتى اليوم لا تزال تلعب دورا غير واضح لناحية مكوناتها وغاياتهم وخطابهم الملتبس لناحية أصول الدولة والتي بدل أن تكون مسألة منتهية النقاش لناحية عدم جواز التكلم عن قيمتهم ووجهة استعمالهم من قبل جهة تتدعي التغيير, تصبح دراسة لأحد المنصات مرجعا في هذه المسألة حتى لو أفصحت عن نية اصلاحية مستقبلية اتجاه استعمال هذه الأصول.
فصحيح أن الإنتخابات سمحت لثلاث عشر نائبا تغييرا بالوصول, لكن أقطاب النظام بجميع خلافاتهم وتجاوزاتهم وفسادهم المعهود احتفظوا بمواقعهم من دون غلبة واضحة لأي طرف ما عقّد الحياة السياسية وزادها ارتباكا, ولكنه بالمقابل سمح لهم بالتنصل من أي مسؤولية بالقرار أو بالحسم مما فتح بابا أوسع للتوافق والتعطيل المضاد. أي باختصار أوجد وضعية مكبلة لا تستطيع أن تنتج أو تتخذ أي قرار فيما يتدعى الإشراف على ضمان أن لا ينفلت الوضع نقديا أو اجتماعيا لحين وصول تسوية خارجية ما.
منذ البداية، كان التغييريون يعانون من الارتباك والتشتت، بسبب فقدانهم الخبرة الكافية في العمل البرلماني والسياسي, وغلبة الأداء الفردي والتقدير الذاتي وعدم تمكنهم من رسم رؤية ومشروع موحد. مما أدى إلى تشتت جهودهم وتقسيمهم وخلافهم بين بعضهم البعض. ونتيجة لهذا الانقسام والتشتت، لم يتمكن التغييريون من تشكيل ظاهرة متماسكة لها تميزها الخاص في الأداء والرؤية والبرنامج. بدلاً من ذلك، تحولوا إلى حالات فردية تتفاوض وتتفق أو تختلف مع بعضها ومع القوى الأخرى في البرلمان، وكل ذلك يتم بناءً على ردود الفعل اللحظية والظروف الحالية. ومع الوقت، تحولت هذه الظاهرة التغييرية إلى مجرد صوت غير مؤثر خارج المجلس النيابي، أما داخل المجلس فصاروا يعتبرون حالة مدجنة شكلية لا تؤثر في منظومة السلطة. فالتغييريون رغم الصخب والاعتراض الذي يثيرونه داخل جلسات المجلس، إلا أنهم يخضعون لسقف سلطة النظام القائم وقواعده وبرنامجه داخل البرلمان، دون أن يتمكنوا من تحقيق تحول جذري في جدول الأعمال السياسي أو الخطاب العام.
