عن غزّة الحرّة وسجننا الكبير

في هذه اللحظات وبينما نكتب هذه السطور على وقع أخبار الأسبوع الثالث لمقاومة فلسطينية، تمرّغ عتاد وتكنولوجيا ومخابرات وإجرام وعنصرية المستعمر الإسرائيلي ومن خلفه الغرب في التراب، وتحولها لضحكات أطفال فوق مصفحة عسكرية. في هذه اللحظات التي اسكتتنا جميعا وجعلت كل ما قيل وما سيقال بلا أي قيمة، أمام ملحمة بطولية حصلت في السابع من تشرين، يوم علّمنا عشرات المقاومين كيف تكون الحرية. كيف أن بين ثنايا هذا الفعل العظيم، الآلاف الذين كانوا يعملون ليل نهار، صيفا وشتاءا، بصمت وحذر، كنمل الأرض يحفرون عميقا في التراب، ينقلون ويجمعون ويصنعون ويخططون، ليعبروا إلى البلاد بصمت ليستردوها شبرا شبرا. هناك في تلك الثنايا صورة لجندي إسرائيلي مكبل ورأسه تحت إبط المقاوم مأخوذا إلى الأسر حُفرت في ذاكرة كل فلسطيني وعربي إلى الأبد. فنحفظها تذكيرا لنا أن المستحيل ممكن كل يوم. نحفظها لأن بتذكرها عونا لنا لإزالة تلك الغشاوات التي عمل القريب والبعيد على وضعها على عيوننا لعقود طويلة. غشاوات الضعف وعدم جدوى المقاومة ونهاية الصراع والتطبيع وعدم التكافؤ العسكري والحياد، وغشاوة الغرب وديمقراطيته وأنظمتهم العربية العميلة.

غزة تنبض حرّية حتى الموت، فيما العالم بأسره حبيس سجنه الكبير. ليست الجدران مرئيّة، ولا القيود مكبّلة، ولا الافواه مكتومة، لكن الهيمنة العالمية على ما يسمح للعقل بادراكه وللحواس بالتماسه هو سجنٌ للبشرية في القرن الحادي والعشرين. تتسلل الرواية الصهيونية القذرة بأبواق الحكومات المتواطئة والاعلام المأجور، وظاهرة تضامن المؤثرين من فنانين واعلاميين ورياضيين، الى العقول الهشّة، ويستهلك العالم المطوّع بثقافة الاستهلاك تلك الاكاذيب و الاضاليل. لنجد العالم الحر يرتضي بآخر كيان فصل عنصري، ونجد من عانى عقوداً من الظلم و العبودية مناصراً للظالم على المظلوم، ونرى حاملي لواء الانسانية في العالم قد سمحوا بانتزاع الصفة الانسانية عمّن تجرّؤوا على الانتفاض لحريتهم، اي لانسانيتهم.

فضح العنصريون أنفسهم بأنفسهم ولم تسعفهم كل مقولات التحضّر والحداثة والديمقراطية. حين يبكون المحتلّ ويدينون المقاوم، فهم يقولون لنا وبالفم الملآن أن المستعمر يشبههم ويخدم مصالحهم ولا يرون مكانا لحياة الألفي طفل المستشهد في غزة على سلّم قيمهم الإنسانية.  وتكالب الغرب بحكوماته ووسائل إعلامه على الفلسطينيين، وقدموا لرأس حربتهم في هذا الشرق تفويضا بلا مساءلة لينهي ما بدأه في ال 1948- الخلاص من المقاومة ومن الكتلة الديمغرافية الفلسطينية في غزة وفي الضفة الغربية. اسرائيل هذه ليست إلا استمرارا للمشروع الاستعماري الكلاسيكي الغربي. وهي تذكر الحكومات التي ايدتها بماضيها وشبابها عندما كانت امبراطوريات منطلقة في ظلم الافارقة والاسيويين واللاتينيين.

أما نحن هنا في بيروت وفي كل مدينة عربية، والتي تثبت دائما أنها تلفظ الكيان الصهيوني وأن حسها الإنساني لا زال الروح فيه، مهما بطشت ورشت وسجنت أنظمتهم بهم. فالكرة كانت وستبقى في ملعبنا لنزيل الغشاوتين، وما فعل المقاومة في غزة إلا كفعل الأنبياء والمرسلين، تذكير لنا نحن العاجزين في كل مدينة عربية عن سؤال يحدد يومياتنا: هل نخضع أم نقاوم؟ ما من منطقة وسطى بين الحرية والإستعباد. الحرية لا تؤتى بالإقناع، بل بالقوة، بأن تصمد وتقاوم وتراكم كل أسباب النجاح لتهجم على مستعمرك إن كان في الأنظمة العربية أو في فلسطين. خطابات التضامن، وحقوق الإنسان والرأي العام كلها خطابات جيدة ولكن لا تكفي إن لم تأت حوالي حركة مقاومة وتحرر وطني في بلداننا نحن شعوب هذه المنطقة. وإن عَجزَنا سيبقى كذلك أبد الدهر إن لم نبن حركة سياسية إجتماعية تحررية واحدة في بلداننا تمتلك قرارها ومصيرها. وعملنا اليومي النضالي لدعم غزة والفلسطينيين لا يمكن أن يتجاوز هذا المفصل لو مهما حاولنا أن نقنع أنفسنا أن تضامننا من وراء شاشات هواتفنا وعلى منصات التواصل ذو جدوى. الجدوى الحقيقية هو أن نتحرك باتجاه سياسي لبناء أطر تُستثمر فيه المقدرات الشعبية ونتنظم ونتثقف.

إنّ المشروع الصهيونيّ ليس مجرّد مشروع تمييز عنصريّ، بل مشروعا يسعى لطرد السكّان الأصليّين وتفكيك دول الجوار وتطييفها وذبح التعددية فيها، هو مشروع استعلاء عنصريّ ضدّ سكّان المنطقة بأجمعها. وهنا الضرورة لتعرية خطاب الحياد، فعدا لا أخلاقيّة هذا الخطاب ووضعه في خانة دعم الاحتلال بحياديّته المزعومة، فهو خطاب لا عقلانيّ ساذج تافه، لأنّ الحياد غير ممكن أصلاً؛ العدوّ نفسه ليس محايداً تجاهك، تجاهك أنت العربيّ من أيّ بلد كنت، وتجاهك أنت الإنسان اللبنانيّ، أو الفينيقيّ إن شئت. المشروع الصهيونيّ مشروع مبني على الاستعلاء العنصريّ، هذا ما نلمسه في فلسطين. أما مَن يدعو إلى التطبيع مع الكيان الاستعماريّ العنصريّ هذا، فهو مطبّع ضمناً وعلانيّة مع الهزيمة، ولا سلطة للمهزومين على ارادة الاحرار. وأمّا جثّة اتّفاق أوسلو التي يجرجرها عبّاس خلفه فلن تودي به إلّا إلى غياهب التاريخ، بينما المقاومون يراكمون النصر والقوة. كل ما يجري علينا اليوم هو ثمن اننا لم ننتصر عليهم في ال ٤٨، هو ثمن اننا لم ننتصر عليهم في ٦٧. وبالتالي الوسيلة الوحيدة كي لا يستمر هذا هو ان نواجههم. اذا لم نواجه نتحمل اكثر مما نتحمل اذا واجهنا. التاريخ يعلمنا هذا. واليوم اذا تركت المقاومة وحدها، نعلم نحن اللبنانيين ان الدور سيأتي علينا وعلى أهل الضفة والقدس لتهجيرهم من جهة ولإنهاء أي قدرة لدينا على المقاومة والردع تمهيدا لتفكيك بلدنا.

شارك هذا المقال