هناك قوة لاعقلانية تحكم واقعنا السياسي، تبعاتها تبديد المجتمع، وتعميم البؤس على كافة فئاته، وتقييد مخيّلتنا الجماعية كي لا تنتج مستقبلًا. هناك قوة لاعقلانية تحكم واقعنا السياسي، تبعاتها تعطيل الزمن في حياتنا ليصبح وقتنا في هذه الدنيا عبارة عن لحظة بؤس واحدة أبدية، تُسمّى قدرًا. وتبعاتها استلاب قدرتنا على التحكّم بواقعنا بشكل يفيد مصلحتنا، كما نقرّرها نحن. هناك قوّة لاعقلانية تحكم واقعنا السياسي، تبعاتها ترسيخ قناعة بأن الحياة لا تليق بنا، وأن قدرنا يحتّم علينا أن نكون خدمًا لحسابات آخرين ولا قدرة لنا على تغيير واقعنا حسب ما نتعقّل. الآن تتحدد لنا خياراتنا ضمن ثنائية اللجوء أو البقاء ولكن على حساب حياتنا. كِلا الخيارين يؤديان إلى غربة، أي أن يصبح المكان الذي نعيش فيه ليس لنا.
إن هذه القوّة اللاعقلانية ليست مبهمة، بل واضحة، ونستطيع تسميتها. إنها قوّة الطائفية والمصلحة الاقتصادية للنظام اللبناني. بحيث تعمل احزاب سياسية، وما هي الّا نتاج الحرب الأهلية، بتحالف مع منظومة كاملة من مصرفيين وتجار ومستوردين ومضاربين عقارين على اعادة انتاج النظام بحلّته التي نعرفها. يتكفّل بقوننة هذا التحالف مؤسسات دستورية من برلمان ومجلس وزراء ورئيس جمهورية ونظام قضائي، الى جانب ماكينة إعلامية تسوّق للسردية المبتغاة وتقتل أية محاولة لإنتاج رأي عام مضاد لها، متحصّنةً بأجهزة أمن وترهيب لقمع حالات التمرد المتولدّة. فالدولة اللبنانية في ظل هذا النموذج ليست إلا ميدانا لشرعنة تخليها عن وظيفتها الاقتصادية الأساسية أي توزيع الثروة والتنمية والتخطيط مقابل السماح بكافة التجاوزات للقانون من التهريب وتبييض الأموال وكارتيلات المصالح الكبرى وحماية الهاربين من العدالة. وميداناً آخر لجعل الطوائف جسر عبور للمواطن أمامها عبر تخليها عن حقّها باحتكار قوانين الاحوال الشخصية ومنحها للطوائف كحق مشروع. انّه واقع النظام الذي يتنافس اقطابه فيما بينهم على حدود استخراج الثروة من المجتمع من دون أن يهدد التنافس حدود وجودهم. إنّهم يقودوننا نحو موت المجتمع، حيث لا بقاء إلّا لاسم الطائفة ورمزها وزعيمها وثروات بليدة في المصارف. هذا هو مكمن اللاعقلانية، وهو أن يقود المجتمع نفسه نحو الموت لا من أجل صراع يحقق حرّية حياة جديدة، بل من أجل قديم قد فقد صلاحيته في تدبّر شؤوننا الجماعية. فما هو الذي سيبقى بعد كل هذا العنف الممارس على المجتمع؟ لا شيء إلّا بضعة رموز. اسم الطائفة وأرقام تقيس حجم الثروات. أما أثر كل هذا العنف هو تفقير المجتمع، وتهجير طاقاته الحيوية، وتفكيك العائلة، واحتكار التعليم من أجل قلّة كسولة، وتمييز طبقي وعنصري لمن له الحق في الطبابة. عنف من أجل إخضاع المجتمع لحقبة طويلة من الاستغلال والاستزلام في اقتصاد الزبائنية لمصلحة فئة لا تنتج إلا ثقافة سخيفة. عنف اقتصادي وسياسي وأخلاقي، يُراد لنا المشاركة فيه بعنف جسدي وكلامي واقتصادي على المستضعفين في منازلنا وأماكن عملنا وحتى في الشارع. عنف من أجل إخضاع المجتمع وإقناعنا بأن لا حياة تليق بنا، وإن التسوّل قدرٌ لنا، لنبقى خدمًا للرموز حيث لا كرامة خارجها. ليس العنف والموت هذين تضحية من أجل إبداع مجتمع جديد، بل محض تحقيق لشروط استمرار الاستغلال البائس. لا شيء سيبقى إلّا أثر العنف على أجسادنا وأنفسنا، واسم طائفة ورمزها يؤمنان استمرار العنف، وثروات لا تنتج وطنًا بل تتكدّس في البنوك. وان دّلت على شيء، فدلّت على نجاح الحرب على المجتمع.
هناك قوّة لاعقلانية تحكم واقعنا السياسي اسمها الطائفية ومصلحة رأس المال. تحالف قائم على قرارين. الأول، تقصُّد ممثلي الطوائف السياسيين عدم إدارة الأزمة وتدبير أمور المجتمع. والثاني، إنكار أصحاب المصارف بإفلاس مصارفهم وأن سياستهم المالية قد وصلت إلى نهايتها. قد أساء هؤلاء السياسيون الأمانة التي أوكلها الشعب لهم، وهي أن يعملوا من أجل المصلحة العامة للمجتمع. كما أساء أصحاب المصارف الأمانة التي أوكلها المودعين لهم، وهي أن يحفظوا لهم مدّخراتهم التي كانت بمثابة تأمين خاص يحميهم من العوز. أدّى الإنكار بالإفلاس إلى تبديد مدّخرات الأفراد والصناديق الاجتماعية وصناديق المهن الحرّة التي كانت للعاملين وعائلاتهم مصدر أمان ضمن نظام لا يحميهم. وأدّى تآمرهم إلى استباحة الدولة لمصالح دول خارجية تريد إخضاع قرارنا، وإلى استباحة الدولة لمصالح المصارف التي تريد سرقة ما تبقّى من أملاك عامة هي ذخيرة المجتمع الحي، وذلك من أجل بقاء ثرواتهم غير المنتجة.
إن كل فرد منّا يقف أمام خيارين لا مفر منهما، إمّا أن يكسر حلقة التآمر هذه ويستعيد قدرة القرار لمواجهة الواقع، أو يترك تلك القوّة اللاعقلانية تحكم خياره. ما زلنا نقف على مفترق طرق. إما أن نساهم في استمرار وتكثيف العنف والافقار لأجل تغريب أنفسنا فنكون بلا إرادة الحياة خدمة لبقاء الثروات وبضعة أسماء ورموز قد انتهت صلاحيتها التدبيرية، أو نقدّم ولاءاتنا أضحية لأجل إبداع مجتمع جديد يحترم حياتنا. إن الخيار هو بين المقاومة والقدر البائس، والمقاومة هو التغلّب على القوة اللاعقلانية ومواجهة الواقع باتخاذ قرار نتحمّل مسؤوليته، وذلك أوّل أفعال الحريّة.
نستنهض قادرين من أجل هذه المواجهة بالتحديد، المواجهة التي على المجتمع أن يتّخذ فيها قرارًا لأجل نفسه. نعوّل على قوّة مخيّلتنا في الانعتاق من قيود وهم القدر الزائف والبائس، وإنتاج إمكانية جديدة لتشكلنا السياسي يُخرجنا من يأسنا ومخطط قدرنا العدمي. غاية هذا المشروع هو أن يمتلك المجتمع أدوات لتدبير شؤونه لأجل مصالحه التي يقررها بإصرار على قدرة عقله على الحكم. قادرون أن نتغلّب على هذه القوّة اللاعقلانية التي تتحكم بواقعنا. قادرون أن نتحمّل مسؤولية قرار نتخذه من أجل مجتمع حيوي يؤكّد في لحظاته المفصلية على حريّته فيفتح أفق لمستقبل أقل اغترابًا.
