المدخل الثالث: قراءة جديدة لمفهوم القطيعة

إن كان لا بد لنا من أن نطلق على الثورة إسما آخر، فليست القطيعة إلا هذا الإسم. والمقصود بها قطيعة مع بنية مركبة من العلاقات والمجالات والنظم الاقتصادية وعلاقات الإنتاج، تسمى نظاماً. والقطيعة هي النقيض الواضح لكل مسمّيات الوسطية والإصلاح والتغيير من الداخل، بحيث انها جميعاً تعابير تهدف الى نزع فتيل الثورة والإبقاء على النظام الحالي.الإبقاء عليه بكل ممارساته وطرق عمله ومفاهيمه, مع تغيير باسماء بعض اللاعبين ضمنه, وبجرعات مضبوطة من الإصلاح. بالتالي، إنّ أولى الأسس لمواجهة نظام تحكمه قوّة لاعقلانية تقود المجتمع نحو الدمار، هو مبدأ القطيعة معه. وليست كل ممارسة سياسية معارضة للنظام في قطيعة فعلية معه. حتّى حينما تكون نوايا المعارضين صادقة، ولسنا في صدد نقد أخلاقي، تكون ممارستهم من ضمن منطق النظام نفسه معزّزة له. لماذا؟ لأن النظام هو منطق يشكّل ويحكم القواعد العامة للممارسة السياسية والتشكّل الاجتماعي والحركة الاقتصادية. كما أن النظام هو منطق يشكّل ويحكم القواعد العامة لفهم السياسة والمجتمع والاقتصاد. مما يعني، وبكل وضوح، إن النظام هو منطق القواعد العامة التي تنظّم الواقع المعاش وكيفية فهمه. وبهذا التعريف يتضح لنا أن الأفراد، مهما علا شأنهم أو نفوذهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فهم ليسوا من أساسات النظام. بل هم عبارة عن فاعلين تحكمهم قواعد النظام، أي أنهم أدوات لإحقاق منطقه. فنقول إذن، إن الأفراد لا يشكّلون نظامًا، بل النظام يشكّل وظيفة الأفراد.

إن النظام الذي تحكمه قوّة لاعقلانية عاجز عن إنتاج فهم صحيح لنفسه وفهمٍ حقيقيٍ للواقع. ولذلك السبب بالتحديد، هو عاجز عن تغيير نفسه حتى ولو ارتضت أدوات النظام ذلك. على سبيل المثال، يفهم النظام الطائفي أن واقع المجتمع اللبناني يتكوّن بشكل جوهري من طوائف تُسمّى “مكونات” تبدو أبدية، وهي مبرر لوجود الدولة. لكننا نحن نفهم الطوائف على أنها كيانات غير أبدية يحدد التطور التاريخي وظروفه شكلها ووظيفتها السياسية، وأن الدولة الطائفية هي الشرط المؤسس لوظيفة الطوائف السياسية. كما يسلّم النظام بقصة متخيّلة تقول إن تلك الطوائف هي في حالتها الطبيعية بصراع دائم، فيعتبر نفسه شرطًا أساسياً لتأمين “العيش المشترك” بين الطوائف. لكننا نحن نفهم أن وظيفة هذه القصة المتخيّلة هي تبرير لوجود النظام الذي لا يستطيع إدراك أن صراع الطوائف، وعلاقاتها التناحرية المتبادلة، قد شكّلتها الدولة الطائفية عندما أمّنت احتكار الطوائف لتمثّل المجتمع داخل الدولة، وبذلك تمأسس المجال للتنافس الطوائف على النفوذ والثروات. وإن طرحنا السؤال: لماذا لا يستطيع النظام إنتاج فهم حقيقي للواقع وفهمًا صحيحًا لنفسه؟ يكون الجواب ببساطة، إذا خسر النظام المسلمات التي يبنى عليها، مثل جوهرية الطوائف ومشروطية تعايشها، سيخسر مبرر وجوده وتضعف حجّته على البقاء.

وعليه فمن واجب أي حركة نضالية مجتمعية أولًا، أن تفهم الواقع والنظام من خارج قواعد الفهم التي يحددها النظام لنفسه. نستطيع تسمية ذلك الفعل، قطيعة معرفية. إن أي فهم للواقع والنظام من ضمن أدوات الفهم الذي يحددها النظام، سينتج عنه ممارسة سياسية لا تجدي نفعًا ولا تحدث تغييرًا، فتكون بمثابة استنفاد للطاقة والفرص وتعزيزاً للنظام. لذلك علينا أن ننتج أدوات معرفية تستطيع إخضاع النظام ككل لأحكام العقل وقواعد معرفية تفسّر قوانين الواقع وتبيّن شروط وجوده. ولكن من الضروري أن نتذكر دوما أن عملية الإنتاج المعرفي لأي حركة نضالية عليها أن تكون في تطوّر مستمر. أي عليها أن تختبر أدواتها المعرفية باستمرار وتُخضع الأدوات نفسها لمعاينة ومساءلة دقيقة، كي تتيقن من جدواها وصلاحيتها المعرفية. وأهم ما في ذلك إخضاع المسلمات المعرفية الضمنية لنقد مستمر وإلا عجزنا عن فهم منطلقات تفكيرنا ونتائجه. ومن دون ذلك التطور المعرفي المستمر تصبح المعرفة مجرّد سردية نستخدمها لتبرير وجودنا السياسي، فنقع في جمود تاريخي، ونصبح مرآة النظام.   

أما الواجب الثاني لأي حركة نضالية، فهو ممارسة العمل السياسي ضمن الأدوات المعرفية الجديدة التي تنتجها. فالأدوات المعرفية تمكننا من الحكم على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي. أي تتيح لنا تعيين الظروف القائمة في الواقع والشروط المنتجة له، لنتمكّن على أساسها من تحديد ممارستنا السياسية لتكون كذلك بقطيعة مع النظام. نستطيع تسمية ذلك، قطيعة بالممارسة. والقطيعة ليست إلا حصيلة قطائع متراكمة تكمل بعضها في المسار الطويل للعمل السياسي. وفي نظامنا حيث الأزمنة تتداخل والماضي لا ينقطع، مثالا على ذلك أبدية المكوّنات الطائفية وكأنها مخلوقات خارج التاريخ لا تتطور أو تتغير، وأبدية الصراع الطائفي والوطن الملجأ. تبدو القطيعة مفهوماً يؤسس للفراغ والفتنة لتصبح عبارة “ستون عاما تحت سلطان جائر أفضل من ليلة بلا سلطان” هي المعبّر الفعلي عن واقع المجتمع كلّما همّ للسير الى الأمام. فيحصل الإرتداد ويجلب الماضي الى الحاضر، ماض لديه رصيد جاهز من الثقافة والأمثلة وحاضر لم يبن ثقافته التي يقوم القطع عليها. فأي مفهوم لا قيمة له ولا جدوى، خارج سياقه واستعماله، من هنا تأتي أهمية بلورة مشاريع القطيعة التي عليها أن تتراكم لتخلق مسارها. مشاريع القطع مع النظام السياسي والأمني والقضائي، وأهم من كل هذا النظام الاقتصادي  والزبائني الذي يبقي الناس أسرى احتياجاتهم. 

ولم تكن الانتخابات النيابية بالشكل الذي خضناها فيه، إلا أحدى مشاريع القطع بالممارسة للمشروع السياسي. ولأننا نرى أن الانتخابات كما يحددها النظام هي عملية لا-سياسية، قررنا إعادة وضع الانتخابات داخل المعترك السياسي. فأخذنا المواجهة على أنها وطنية سياسية وليست مناطقية إنمائية. وخاطبنا الشعب اللبناني عبر المرشحين في جميع الدوائر بنفس الخطاب والمشروع, من دون مواربة أو تحريض أو تغليف للحقائق استجلابا للأصوات. وأكّدنا على أن المرشحين يجمعهم مشروع سياسي واحد قد اتفقوا عليه مسبقًا، وإلّا أصبحت التحالفات، مثلما هي عند زعماء الطوائف والمجموعات، تحالفات انتخابية عرضية هدفها محض نفعي، أي وصول النوّاب للمجلس، والانخراط في وظائف النظام القائم، فلا تؤسس لنمط حكم أو لمواجهة. وبذلك أخرجنا الانتخابات من كونها مناسبة لا-سياسية ومجرد طقس يُستخدم لتأكيد سلطة الزعيم وتجديد اقتصاد الزبائنية، لنضفي على الانتخابات بُعدها السياسي الوطني.

مع مرور عام على تلك المحطة, نحن نشير اليوم إلى مرحلة كاملة يفرضها الواقع، وتهدف إلى التغيير الاقتصادي الاجتماعي السياسي، أي هدم البناء الفوقي وعلاقات الانتاج القديمة واحلال علاقات جديدة مكانها. مرحلة تتضمن مهمات تهدف لإنهاء النظام الطائفي وتطوير المجتمع. هذا معنى الثورة النظري أي تحليل الواقع والاستنتاج بأن التغيير يجب أن يساوي الثورة، التي تعني القطع مع النمط الاقتصادي الاجتماعي القائم. وهو نظري لأنه مصاغ بعد دراسة الواقع، وتحديد المشكلات المجتمعية، والطبقات والطوائف، ودور كل منها، وما هو مطلوب لتحقيق التطور بغية الوصول إلى نظام جديد، ومَنْ من الفئات يمكنها، بل و يجب عليها أن تحققها. بدءاً من كيفية إعادة تأطير المجتمع المدني حول مصالحه، وانتزاعه من الارتهان للطائفة صحياً وتعليمياً ومادياً، الى تأسيس البدائل التنظيمية على أساس طبقي قطاعي لتعمل لأجل مصالح الفئات وتقود العمل السياسي ضد النظام. وهذا ما نعرف عنه بالقطيعة المادية مع النظام الطائفي بيومياته واقتصاده، في المدارس والجامعات والتشكّلات العمالية، والأطر التعاضدية خارج أطر النظام. هذا هو فعل القطيعة الذي سيبني مجتمعا مدنيا قادرا على أن يعيد استنهاض نفسه، ويتهيأ لمعركة استلام السلطة متى تتوفر ظروفها.

إن الحراك العفوي في 17 تشرين لم يطرح برنامجاً، بل طالب بمطالب نتيجة الوضع الذي يعيشه. المودعون يريدون ودائعهم، والعمال يريدون الأجر، والفئات الوسطى تريد مطالب متعددة، والمجتمع يريد حكاما أقل فسادا. شيء شبيه بوضع الثورات العربية، وهذه هي الثورات العفوية. اما العمل السياسي الثوري المنظم فهو يسعى كي يقطع مع النمط الاقتصادي والسياسي لما فيه مصلحة مجتمعه، وهو بحاجة لحزب ليقود المجتمع نحو لحظة القطع مع النمط القائم،  وذلك عند نضوج  تلك اللحظة الموضوعية.

أخيرًا نقول إن القطيعة التي فصّلناها على أنها معرفية اوّلاً وممارسةً ثانياً وماديةً ثالثاً، لا تستطيع إلا أن تكون قطيعة مع النظام ككل. وبما أن النظام هو شكل المجتمع في زمن محدد، يمكننا اختصار القطيعة ككل على أنها قطيعة زمنية. يفهم النظام الطائفي تطوّره على أنه سلسلة حقبات متتالية تسمّى “المارونية السياسية” و”السنية السياسية” و”الشيعية السياسية”. في الحقيقة إن هذه الحقبات ليست تطوّراً للنظام بل هي هيمنة طائفة معيّنة ضمن إطار المنافسة بين الطوائف الثلاث الرئيسية المحددة مُسبقًا من قبل الدولة الطائفية. لذلك نقول أن القطيعة الزمنية مع النظام هو قطيعة مع كيفية تأريخ واقع المجتمع اللبناني. وثانيها هي القطيعة الفعلية مع الدولة الطائفية التي أسست لتناحر الطوائف وهيمنتها، من أجل الانتقال إلى زمن مديني الذي تؤسس له الدولة المدنية. إن الانتقال إلى الزمن المديني يعني الانتقال إلى نمط اجتماع سياسي عقلاني يفهم تاريخه حسب مراحل التطوّر الفعلي للمجتمع وظروفه. فقط في الزمن المديني، أي في زمن الدولة المدنية، نستطيع فهم مصلحتنا العامة وسبل تطوّر طاقات مجتمعنا.  

شارك هذا المقال