قادرين للتغييرين: لا معارضة بسقوف منخفضة

بدأ التحضير لعملية بناء الوهم وسرقة الأملاك العامة ودمار الدولة قد منذ ثمانينيات القرن الماضي، حين بدأ التأسيس لبنية اقتصادية تحكمها الطوائف وتتماشى مع نمط تنظيم الجماعات خلال الحرب. أجمع زعماء الحرب على أن زعيم كل طائفة هو المسؤول عن المواطنين في طائفته، فأي شأن اجتماعي تريد الدولة تقدمته للمواطنين، عليه أن يمر من خلال الزعماء ومؤسساتهم الحزبية ومؤسساتهم غير الحكومية التي أنشأوها لاحقاً. والعكس صحيح، فأي حق اجتماعي يريده المواطن من الدولة عليه أن يطلبه من الزعيم الوسيط. فيتكرّس زعيم الطائفة وسيطاً مادّياً ومعنوياً بين المواطن والدولة، ليصبح الزعيم، مهما كان أداؤه سيء، بمثابة رمز يؤمّن اعتراف الدولة بالمواطن. وفي المقابل بتوكُّل الزعيم شؤون الطائفة عن المواطنين، يتخصص له حصة في مؤسسات الدولة باسم الطائفة، ومن الأملاك العامة لتصبح ملك خاص له، تدر عليه المنفعة. فتنتفي وظيفة الدولة الأولى وهي بناء مجتمع متماسك وتأمين حاجاته العامة، من تعليم وطبابة وسكن ودفاع ووصل مناطق البلد ببعضها، لتتكرّس وظيفة الزعيم المحلية وبنية الاقتصاد الزبائني. هي عملية شخصنة الوسيط بين الدولة والمواطن واحتكار لعملية استخراج رأس المال بعد مأسسة احتكار الطائفة لتمثيل المجتمع داخل الدولة. هذه العملية الإجرامية والمعقّدة هي ما يُسمى اليوم فساد وزبائنية. وهي الجزء الأكبر من البنية الاقتصادية والاجتماعية التي أودت بنا اليوم لما نحن عليه، وأحلت علينا الأزمات الواحدة تلو الأخرى.
توازياً مع ما سبق، وهنا تكمن العملية الفعلية لإنتاج الوهم، بدأت في التسعينيات عملية تضخيم القطاع المصرفي ورأسماله من خلال زيادة الدين العام ورفع نسب الفائدة، وكانت الحجة في ذاك أن الدين ضروري لتغطية العجز الناتج عن عملية إعادة الإعمار. لكن الواقع هو أن الإنفاق لم يكن لإعادة بناء البنية التحتية للبلد، بل إنفاقاً من أجل “الهدر”، أي من أجل تجذير البنية الاقتصادية الزبائنية والاجتماعية الطائفية التي شرحناها. فإن رفع الفوائد على الدين العام سمح للمصارف برفع الفوائد على الأموال المستقطبة من الخارج. وبما أن ذلك يقلص القدرة على انتاج السلع للتصدير، استُبدل ذلك بتهجير الشباب لما فيه من منفعة لجهة استقطاب الأموال. ولما اتضح فشل الرهانات الإقليمية على السلام وخفتت قدرة استقطاب الأموال الخارجية، قرر مديرو المرحلة إنكار الأزمة الواقعة. قرروا المكابرة وبناء وهم أكبر من ذاك الذي مضى، ظنًا منهم أن بإمكانهم “التشاطر” على الواقع إلى الأبد، أو بالأحرى كان عبارة عن تأجيل الأزمة لتتحمّل تبعاتها الأجيال اللاحقة. ففي عام ١٩٩٧ قرر مهندسو النظام المالي في لبنان البدء باكتتاب “اليوروبوند”. أي تقرَرَ أن الدولة اللبنانية، التي كانت على طريق الانتهاء، تستطيع خلق عملة الدولار الأميركي التي لا سيادة لها عليه ولا قدرة لها على طبعه.
على هذه الأسس بُني النظام الاجتماعي الذي حرّكه وهم خبيث وواقع إجرامي. ولهذا، عندما وقع الإفلاس عام ٢٠١٩، قام مهندسو النظام المالي، وبدعم من زعماء الطوائف، باستكمال سياسة إنكار الواقع. عجزوا عن اتخاذ أي قرار يحمي المجتمع لا بل قرروا تدميره وتغيير شكله للأبد، واستمروا في سياسة تعليق الأحداث دون نهاية. بعد انهيار الوهم الكبير، بدأوا بإنتاج أوهام متعددة أهمها أسعار الصرف المختلفة. وهي أوهام خُلقت كي يشركوا الناس مرّة أخرى، وهم مجبرون على ذلك، في أن ينكروا الواقع ويتأملوا عودة ودائعهم. وما كانت هذه الأوهام إلّا شراءاً للوقت، أي تعليقاً للنهاية، حتّى يحين وقت الجريمة الأكبر. أي حين تنتهي الحرب على المجتمع وتُسرق الأملاك العامة لأجل إنقاذ المصارف وإنجاح سياسة إنكار الإفلاس الحاصل. يتم عندها تعليق النهاية مرّة أخرى، ويُسرق الوقت الذي مضى مرّة أخرى، ولا يكسب المواطنون من ذلك أي جديد ينفعهم. على العكس، يُعلن عن إنهاء أي مقوّم للدولة، ويُستكمل بناء الوهم ولكن بواقع أصعب يكون فيه حال المواطنين في بؤس أوحش.
في هذه الظروف ولدت قادرين. كمحاولة استباقية عبر الانتخابات، لوقف اندفاعة النظام ضد الناس. جاءت لتقول أن هناك فرصة لبناء دولة مدنية، تعيد للمجتمع حقّه المادي فتنتج علاقات اجتماعية سليمة حيث يرتبط المواطن بالدولة دون وسيط، فرصة إعادة وصل المناطق التي عُزلت عن بعضها من خلال انشاء نقل عام مشترك، فرصة إلغاء الزبائنية من خلال تأمين مجانية التعليم والضمان الصحي، فرصة توظيف الطاقات الحيوية للمجتمع من أجل الإنتاج، وتأمين السكن لشباب منخرطين في مشروع بناء بلد، لا تأمين هجرتهم. فرصة تمركز القدرة الدفاعية داخل دولة قادرة على الدفاع عن أراضيها. كانت فرصة تخطّي إمكانية الاقتتال ومنع انتقال المجتمع إلى حال التوحّش والبؤس الكامل. كانت فرصة تعيد للمجتمع حقه المعنوي بأن ينتقل بعد التضحية وينهي الحقبة الماضية، ويحصد المجتمع الجديد ثمرة التضحيات التي قدمها. كنا نُسأل حينها عما اذا كانت طريقة خوضنا للانتخابات تضرب مشروع التغيير بالبلد؟ فكان جوابنا احتراما للناس وتعبهم وآمالهم، واستدراكا وتفاديا لتفاهة المشهد التغييري الذي نشهده اليوم في مجلس النواب، أننا لسنا بحاجة للكثير من التمعّن لاكتشاف أن البلد في مأزق أكبر بكثير من أوهام التغيير عبر الانتخابات النيابية. فالنظام اللبناني التوافقي بعيد كل البعد عن الديمقراطية التي تسمح بتداول السلطة سلمياً. كما أنّ الواقع الراهن لا يسمح بأي تغيير جدّي عبر مؤسسات الدولة بشكلها الحالي، إذ أن السلطة الفعلية في البلاد موجودة خارج هذه المؤسسات. في الحقيقة، هذه الانتخابات هي استحقاق النظام لإعادة إنتاج نفسه ولاستعادة شرعيته الداخلية والخارجية. أي إنها انتخابات القضاء على آخر معاقل مواجهة النظام وتدجينها، والطريق الوحيد لعدم إعطائهم هذه الشرعية هي استخدام المناسبة كوسيلة للانتظام وبناء القوة ومواجهة صمت النظام تجاه أية خيارات سياسية، بطرح خيارات جدية وتجييش الناس عليها، وهذا يتناقض كلياً مع مقولة أن وصول بعض الأصوات المعارضة يمكن أن يحدث تغييراً داخل المجلس. الواقع هو أن المجلس النيابي لا يحتوي على سلطة فعلية، وسبق لرئيسه ان أقفله لسنوات دون أي تعثّر فعلي للعمل السياسي للدولة. بالتالي، هذه السلطة سمحت بوجود معارضة شكلية في البرلمان، لا بل أن مصلحتها اقتضت ذلك. يناسبها اعتصام الشموع الذي يسخف العمل السياسي في بلد حاكم مصرفه المركزي ملاحق دوليا بتهم بتبييض الأموال. يناسبها معارضة تستعمل البراغماتية لتبرر ممارساتها التي لا تختلف بشيئ عن ممارسات النظام وطريقته في الحكم. يناسبها مقولات “تجرع السم” و عدم الضرورة لصياغة مشروع سياسي قبل الانتخابات. يناسبها تسمية نبيه بري ب”المدرسة”. يناسبها المراهقة في السياسة والخوف من الوضوح، واستبدال اسقاط النظام بالمنظومة أي تبديل الأشخاص مع إبقاء نفس آليات العمل.
وفي زمن اختلال السلطة بالداخل والخارج منذ بداية الأزمة وحتى الانتخابات، وبدل أن تكون هذه المناسبة للتجمع حول البديل السياسي الواضح والذي عبرت عنه قادرين أخيرا، كان خيار التغييرين كيف نلتحق بالنظام. نسأل أنفسنا اليوم، هل كان يمكن القبول بأقل من هذا السقف السياسي لحملتنا؟ جوابنا كان ولا زال. كلّا! فهذا المجتمع يستحق سلطة ومعارضة أفضل من الموجود حاليا. يستحق أن يضحّي الفرد منا بوقته وجهده وحياته متى احتاج. يستحق منّا أن نحترمه ونحترم معاناته وخياراته النابعة من ظروف شكّلها النظام طوال عقود. هدفنا كان ولا زال اخراج هذا الشعب من مأساته. فالعمل السياسي يتطلب الكثير من الصبر، الصبر المجبول بالمثابرة على حد قول غرامشي.

شارك هذا المقال