المجتمع اللبناني من ذكريات التفوق الى يوميات الانحطاط

يتضح يوما بعد يوم  كيف أن الدولة اللبنانية تنهار بوتيرة متسارعة، وانهيارها يعني تراجع أداء مؤسساتها، وقرب إفلاسها في تغطية أنشطتها ورواتب موظفيها. وعجزها عن القيام بمهامها الرئيسية في إدارة الشؤون الاجتماعية وتوفير شروط الحياة الكريمة للمواطنين. إننا نتحدث عن أوضح المظاهر والنتائج الملموسة للانهيار والتحول العميقين لطريقة الحياة والقيم والعلاقات وشؤون المجتمع وأفراده. وهو تغير اجتماعي سوف يطبع العقود القادمة ولا بد من فهمه وتحليله لكي نقدر على العمل ضمنه لما فيه خيره.

 إن انهيار الدولة يعني زوال المساحة المشتركة التي تسمح للأفراد بالتلاقي وتعزيز المشترك بينهم تحت سقف هوية الدولة هذه. فيصبح العام معرضا للتجزئة والتقسيم، وتتحول المكونات الإجتماعية إلى حلقات مقفلة وجزر متلاصقة بالجغرافيا ولكن معزولة عن بعضها بكل جامع آخر. فتتحول الهوية الجامعة التي من المفترض أن تكون الدولة حاضنتها – هوية عابرة للخصوصيات تتطور بالاختلاف والتنوع – إلى هوية تتعايش فقط مع كل ما يشبهها ويكمّلها في كل تفصيل، من الثقافة إلى الدين الى الأصل المناطقي إلى اللهجة والعادات الإجتماعية. عند هذا الحد تزدهر الأساطير والروايات الشعبية والقصص المروية عن الأصل والفصل، وتسيطر الخرافة والأكاذيب مكان الحقيقة على العقول، فهي نبع غزير لتمجيد الهوية وتقديس رموزها وإثبات تفوقها على غيرها من الهويات المجاورة. 

مرّ المجتمع اللبناني منذ بدء الأزمة حتى لحظة صياغة هذا النص بالعديد من المراحل التي أثّرت عليه بشكل درامي. كوّنت لحظة 17 تشرين حالة غضب يقابلها شعور بالأمل والرغبة في التغيير. مع مرور الوقت وتمكّن السلطة من السيطرة على الأمور خَفَتَ هذا الشعور، لكنه لم ينحسر، ليأخذ السخط الحيّز الأكبر من المشاعر الجماعية خاصة بعد مجزرة 4 آب. فحاولت السلطة مرة أخرى استباق الأمور والسيطرة على الوضع عبر تنفيس هذه المشاعر لكن هذه المرة من خلال إعادة عقارب الساعة إلى فترة يحاول كل من عاشها كتمانها من ذاكرته أي فترة الحرب. دفن التحقيق في حادثة الطيونة وتأججت مخاوف اندلاع حرب أهلية جديدة، الأمر الذي ضرب حالة المعارضة من الناحية الفكرية والسيكولوجية في الوعي الجماعي اللبناني بشكل كبير.

هذه الحوادث التي تبدو الآن أنه مرّ عليها عقد من الزمن، حدثت بين السنة الثانية من ولاية المجلس النيابي السابق وحتى انتخابات أيار 2022 التي صُوِّرت في أذهان اللبنانيين وكأنها الباب الوحيد لتغيير واقعهم المرير في ظل هذه الصورة السوداوية.

حصلت الانتخابات، وأتت النتائج على الشكل الذي عرفناه فتشكّل المجلس النيابي الحالي. حاول على إثرها كل طرف بيع النتائج لجمهوره كما يحلو له. حزب الله نجح في كسر المؤامرة والقوات برزت كقوة مسيحية أساسية على الساحة والتيار صمد في وجه خصومه والكتائب أصبحوا أربعة في المجلس بدل الثلاثة. الحالتين الاستثنائيتين تمثلتا في ما سمّي بالنواب التغييريين والواقع السياسي للطائفة السنية.

غياب خطاب واضح وموحّد لدى التغييريين سمح لمجموعات تتبنى أفكار متطرفة لطالما اعتبرت غير شعبية أن تبرز بقوة. عادت الأصوات المنادية بالفدرالية والتقسيم أو الانتداب والوصاية الدولية وحتى تلك التي تنادي بإنهاء الكيان اللبناني من أصله وأخذت مساحة غير قليلة من الفضاء السياسي والفكري في البلد لتصبح على لسان عدد كبير من اللبنانيين.

فعندما تتكسر الهويات المجموعة تحت كنف الدولة إلى مكوناتها الأبسط، يصبح كل مختلف مصدر تهديد وقلق، فالواجب الحفاظ على التجانس في أعلى درجاته كل الوقت. ويصبح العمل الفكري للنخب في هذه الجزر هو البحث عن كل ما يفرق بدل ما يجمع، وتقوم العلاقات مع الآخر المختلف على القطع والتنافر بدل الوصل والاتصال. ويصبح السلوك الجماعي سلوك خوف وعدوانية مفرطة لا تحتمل الغريب المختلف. وتتحول العلاقة من إدارة العام الجامع الضابط لمصالح الأفراد على اختلافاتهم، إلى علاقة هيمنة وغلبة وقهر من المجموعات اتجاه بعضها. فالمختلف لا مكان للتعايش معه بل من الواجب كسره وابتلاعه وإنهاؤه، وإن لم ينجح ذلك فليصبح تابعا خاضعا لمشيئتي حيث لاحدود لقدرتي على إهانته كل يوم. 

عند انهيار الدولة، لا يعود للعقل والعقلانية من مكان للفعل أو مشروعية بالقرار. فالعقل أساسه العدل والخير وتوزيع المنافع والفوائد على الجميع بالتساوي، يستعين بالمنطق والدقة والقواعد العامة ليفعل فعله بين الناس. لا مجال للظلم أو الاستثناء أو الانتقاء مع العقل أم أنه ينفي عقلانيته عندها ويصبح شخصنة وغريزة وحكما بشريا ناقصا وهي الحالة عند التفتت وسيطرة الهويات الخاصة والعصبيات القبلية.  

عند انهيار الدولة، تنتهي الحرية. فالحرية فعل عقلي خالص ومع ضمور دور العقل تنتفي الحرية. فالعصبية والتماسك الداخلي يتطلب تجانسا فكريا وسلوكا ورأيا واحدا لا اختلاف ضمنه، وبالتالي يصبح الاختلاف ليس فقط اتجاه الخارج بل ضمن الهوية الواحدة مصدرا للخطر وبالتالي يجب قمعه. لتصبح السردية الهوياتية مكانا لتمجيد ليس العقلاء بل المحاربين الشجعان، المتطرفين بالعصبية لحد الجنون، المغالين بالذود عن القبيلة ونساءها وأطفالها، الرافعين لراية عزّها. يغازلون كل الوقت هوية أفراد القبيلة فيمجدوها وينمّوا عصبيتها وعدوانيتها وحبها لذاتها. عند هذا الحد تدخل الهويات المفتتة في طور التنظيف الداخلي مرة جديدة، لتبحث عن اختلافات وأسباب للقمع والاستبداد والتمييز داخلها، فهي وحش يعتاش على الدم وقتل العقل والعقلاء باستمرار. 

بالتوازي يشهد لبنان تغيّرا ديموغرافيا هائلا من حيث هجرة الشباب، وحتى بالمنظور الطائفي من حيث التغيّر السريع بالتركيبة الطائفية جرّاء نسبة الولادات المنخفضة في بعض الطوائف والمرتفعة في بعضها الآخر والهجرة التي تسرع من هذه الوتيرة. أمّا التطوّر الأهمّ وربما الأخطر إن لم يدر بشكل واع ومدروس فهو عامل اللاجئين السوريين الذين باتت نسبة ولاداتهم أعلى من نسبة الولادات اللبنانية بالإجمال.

أخذ موضوع اللجوء السوري حيّزاً كبيراً من إهتمام الناس مما تجسّد في الخطاب السياسي والإعلامي على مختلف أشكاله في السنة الأخيرة. في الأزمات، دائماً ما تكون الحلقة الأضعف عرضة للتنمّر، فتحوّل السوريون إلى كبش محرقة تستخدمه الأحزاب لشدّ عصب جمهورها أو حتى للمجتمع بحدّ ذاته لفضّ الخيبة من عدم القدرة على محاسبة المسؤولين الحقيقيين عن تدهور حالتهم ومستوى عيشهم. لا يخفى أنّ اللجوء السوري غير المنظّم بسبب سوء الإدارة يضيف أعباءاً هائلةً على كاهل مؤسسات الدولة والبنى التحتية وعلى المواطن اللبناني في نهاية المطاف، لكن تحميل مسؤولية الأزمة بأكملها لمجموعة من الناس اضطروا على مغادرة بلادهم ولم يعودوا إليها حتى الآن لأسباب عدّة يطول شرحها في هذا المقال، هو عمل لا أخلاقي وباطل، وهو اعتراف المجتمع بالهزيمة بوجه مسببي الأزمة الحقيقيين.

هذه الصورة تعطينا فكرة عن الواقع السياسي في البلد، وفي الأخص، عن الصورة الجماعية للسياسة في السنوات القليلة التي مرت. السياسة كلمة مشتقّة من فعل “ساس” وتعني لغوياً الاهتمام والاعتناء ومعالجة الأمور، وعند النظر للمفهوم من هذا الباب تبدو السياسة في لبنان معاكسة تماماً لمعناها اللغوي. تحوّلت السياسة ومعها النظام السياسي اللبناني إلى لعبة قائمة على الفيتوهات والعرقلة هدفها منع أي من الأطراف من تحقيق المصلحة العامة بحجة حماية المصلحة الخاصة المعلنة أي الطائفة وخلفها المصلحة الخاصة الدفينة، أي مصلحة الأفراد الممسكين بمكامن السلطة. هذا المشهد المعقّد يتطلّب مشاركة مختلف الأطراف فيه كي يحقّق التناغم المطلوب لاستمراره خشية أن يعطّل كما أنه بحاجة إلى توازن قوة أطرافه لكي لايتغلب أحد أطراف التوافق على الآخرين: حزب الله وحلفائه من جهة وحلفاء الغرب من جهة أخرى. تبرز هنا أهمية استحضار الخارج لدوزنة هذه التوازنات الدقيقة، كل هذا على حساب الدولة وسيادتها.

 هذا الشرح يسمح لنا في تكوين فكرة عن الحالة الذهنية للمواطن اللبناني الذي يرى ويشعر بضعف الدولة ومؤسساتها وبالأخص ينفر من بطء أجهزتها وفساد موظفيها، فيلجأ لحاضنته الطائفية الحزبية التي تهرع لتقديم له الخدمات التي ساهمت هي في استنزافها من كنف الدولة، فتبدو المؤسسة الحزبية أرقى وأقوى من الدولة بأكملها. مع تكوين هذه الصورة الشففافة والبتولة عن حزبهم، يتمّ بالمقابل رسم صورة شيطانية عن كل خصومه، مدعّمة من سنين من الحرب والروايات الفظيعة عن أحداث و جرائم و مجازر. فلا يعود مستغربا حدوث أزمات اجتماعية منبثقة من الهوية الضيقة مثل حادثة شطّ صيدا أو أزمات مفتعلة عن خبث أو عن عبث من قبل السلطة مثل موضوع تعدد التوقيتات عندما قرر رئيس المجلس التخلف عن تقديم الساعة. إننا نسير بخطى ثابتة نحو انتهاء مدنية الدولة والعمران والانتقال حسب قول ابن خلدون الى طور البداوة، حيث لا مكان للعقل والفكر الحر والاختلاف. حيث لا مكان للحياة أصلاً. وبالتالي إن فعل مقاومة الذهاب الى الغابة هو الذي يشرعن أي عمل يرى بالدولة والمدنية والحضارة مقاما لا بد منه للحفاظ على انسانيته. 

شارك هذا المقال