الأزمة الإقتصادية: تغيير من أجل البقاء

لا يمكن لأحد أن ينظر إلى الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالمجتمع اللبناني منذ أكثر من ثلاث سنوات إلا ويدرك أنها نتيجة حتمية للسياسات التي أنتجها نظام ما بعد الحرب الأهلية. وبذلك يصبح علينا التفكير مليا في كيفية استطاعة هذا النظام إطالة أمد “الاستقرار” الوهمي لأكثر من ٢٥ سنة، حيث تمكن خلالها من حياكة الوهم وبيعه لجيل ضاع شبابه بالحرب، فأصبح أفراده يبحثون عن أي ناصية خلاص يعلقون عليها كامل أمالهم بمستقبل أفضل من ماضيهم الصعب وشبابهم الضائع. ولكنهم لم يكونوا مدركين أنه بتمسكهم بهذا الوهم سيبيعون مستقبل أولادهم وأحفادهم ليتركوهم بعد انكشافه بين باحثين عن هجرة قسرية أو معطلين عنها.

يحاول بعض المدافعين عن النظام تصوير أي توصيف أو نقد لحجم ووقع الأزمة الإقتصادية على المجتمع أنه مبالغة وتهويل، إلا أن الحقيقة العلمية تؤكد تخاذل مكونات النظام لا بل تأامرهم. إذ تعتبر هذه الأزمة الأصعب بين الأزمات الاقتصادية في التاريخ الحديث، وقد وُصِفَت بالعاصفة المالية التي لم يسبق لها مثيل بسبب أوجهها المتعددة من إنهيارسعر الصرف وتأثيره على القدرة الشرائية، إلى إفلاس القطاع المصرفي وتبخر أموال المودعين ومدخرات الهيئات الضامنة، ومديونية الدولة وعجزها عن القيام بدورها بحماية المجتمع وانهيار مؤسساتها. وقد أتت جائحة كورونا وتعطيلها للإقتصاد العالمي ومن ثم انفجار مرفأ بيروت بكل تداعيته المادية والبشرية والنفسية لتفاقم الأزمة الإقتصادية. في الواقع، إن النظام السياسي الإقتصادي الذي نشأ منذ مطلع تسعينات القرن الماضي على الشراكة والتوافق بين حكام الطوائف المتصارعة وتجار الريع والمحتكرين والذي ضمن مصالحهم طيلة فترة الوهم المصطنع، انتج فجوة مالية  في الاقتصاد أي خسائر قدرت بحوالي ال٧٠ مليار دولار أميركي، كانت حصيلة ٣٠ عاما من بيع الأوهام وإخفاء الخقائق حفاظا على امتيزات الشركاء في هذا النظام المسخ.

من السذاجة اعتبار هذه الأزمة أزمة تقنية، فقد أصبح واضحا أن الأزمة الحقيقية وربما الوحيدة هي أزمة سياسية ناتجة عن عطب بنيوي في أسس النظام. فربما يظن البعض أنهم عاجزون عن وضع خطة تعافي إقتصادية، تهدف لإعادة الانتظام المالي وهيكلة المصارف والدين العام، أما في الحقيقة فهم غير عاجزين بل خطتهم الحقيقية والخفية هي التي تتحقق وقد وصفها تقرير البنك الدولي بالانكماش المتعمد.  فكما تسير الأمور اليوم، من يتحمل الخسائر الناتجة عن الإنهيار الإقاصادي هو المجتمع بأكمله وخاصة ذوي الدخل المحدود من العمال والموظفين. فالخسائر تظهر بانخفاض جودة حياتهم وقدرتهم الشرائية، وبذلك تضع مكونات السلطة هذا المجتمع كرهينة دفاعا عن نظام سياسي مالي ميت حفاظا على امتيازاتها ومصالحها، بانتظار حل خارجي يعيد الحياة إلى هذا الجسد المهترئ. بالمقابل، فالعمل على أي خطة وتنفيذها سيحمل متخذي القرار أعباء سياسية ومادية، فالخطة الحقيقية التي تعمل على  التوزيع العادل للخسائر لن تصب في مصلحتهم، وبذلك قرروا ونفذوا ما أرادوه وهو زيادة هيمنتهم وسطوتهم على المجتمع ومقدراته.

إن تعمد السلطة عدم اعتماد أي خطة تعافي إقتصادية أنتج طبيعة اقتصادية واجتماعية جديدة يحكمها البؤس واتساع الفجوة  بين طبقات المجتمع. بالإضافة الى ذلك فدولرة الاقتصاد التي باعها من نظر لها واعتمدها أنها الطريقة التي من خلالها يمكن السيطرة على تقلبات الأسعار وفوضى الأسواق، أتت مفاعيلها مخالفة تماما، فقد ارتفعت الأسعار بالتزامن مع انعدام التقديمات الإجتماعية والخدمات الصحية ما زاد الضعط على الشريحة الأكبر من المجتمع، فارتفعت أسعار الخدمات الصحية بنسبة ٣٠٣%، وارتفعت أسعار خدمات النقل بنسبة ٢٦٠%. فمستويات الأجور وإن أصبحت مدولرة في القطاع الخاص إلا أنها لا تزال منخفضة جدا مقارنة مع مستويات الأجور قبل الأزمة،  مما سمح للتجار وأصحاب النقوذ بزيادة هوامش ارباحهم بطريقة خيالية. إن التحول للإقتصاد النقدي نتيجة لإفلاس المصارف وتوقف الإئتمان أنتج هذا التوازن الجديد، مع تركز للسيولة الأجنبية بيد فئة صغيرة من المجتمع لا تتجاوز ال ٥% من إجمالي الأفراد، وما يؤكد هذا هو ارتفاع اجمالي الاستيراد نتيجة للإرتفاع في استيراد السلع الكمالية بينما استقر حجم الواردات الأساسية والتي من المتوقع انخفاضها مع انخفاض القدرة الشرائية للشرائح الأوسع من المجتمع واتساع الفوارق الطبقية.

فقدَ الاقتصاد اللبناني الميزات التي لطالما يتغنى بها منظري النظام، فأفلس القطاع المصرفي ولن ينجح بإعادة إنتاج الثقة التي كان يتمتع بها وهو بشكله الحالي، وهاجر عدد كبير من أفراد الطاقم الطبي (تشير الأرقام أن حوالي ٣٠٠٠ طبيب و٢٥٠٠ ممرض هاجروا منذ بداية الأزمة) ما أفقد القطاع الاستشفائي عاموده الفقري، وانهار القطاع التربوي وعند بداية كل عام دراسي جديد يزداد التصدع داخله فثلاثة من بين كل عشر شباب في لبنان أوقفوا تعليمهم, و4 من بين كلّ 10 عمدوا إلى التخفيف من الإنفاق على التعليم لشراء المواد الأساسيّة. أما السياحة ففقدت الميزة التفاضلية التي اكتسبتها خلال الأزمة، فبعد دولرة الإقتصاد عادت وارتفعت الأسعار بطريقة جنونية. إن التوازن الإقتصادي الجديد الذي نشأ نتيجة غياب خطة تعاف زاد الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، ومحاولة إعادة إحياء النظام الإقتصادي الميت وإن انتج توازن اقتصادي جديد فحتما سيكون هش وغير مستدام ومعرض عند أي خضة جديدة للإنفجار. بالإضافة لذلك، فلبنان ليس جزيرة منفصلة عن محيطها، فارتباط الطوائف المتناحرة بأطراف خارجية وصغر حجمه وضعف مقدراته، يزيد من التأثيرات الإقليمية والدولية على الداخل.

نعم تأقلم المجتمع على طبيعة حياته اليومية الجديدة وسلم أفراده بالأمر الواقع وخسروا هذه الجولة، إلا أن الحرب التي تشنها طبقة اصحاب المصالح لم تنته بعد. إن كل ما سيق ليس دعوى للإستسلام بل هو تصوير للواقع الإقتصادي والإجتماعي اللبناني المستجد بعد الأزمة، فمن الواضح أن اتنغيير مسار شاق وطويل الأمد وان تغيير البنية الإقتصادية للمجتمع هي الحجر الأساس في التغيير السياسي، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا عبر بناء الأدوات التي تمكننا من الانتقال من مرحلة الدفاع عن النفس إلى مرحلة الهجوم لتكريس نظام اقتصادي حقيقي يؤمن ديمومة المجتمع واستمراريته. أما وقد أثبت النظام الاقتصادي فشله وخسر ما كان يعتبر امتيازات، وفي ظل التغيرات السياسية التي تطرأ على المنطقة، يبقى السؤال الأهم الذي علينا الإجابه عليه: أي دور إقتصادي نريد للبنان في المنطقة؟

شارك هذا المقال